أرشيف المدونة

الظهور الأول

لم يكن النحّات ليماك عند خروجه في صباح اليوم الثالث من شهر البذار في السنة الثامنة من حكم الملك زمريليم، لك يكن على عِلمٍ بأن هذا اليوم سيُسجّل في كتب التاريخ كواحد من أهم الأحداث التي غيرت مسار العالم.

فالفقير للمعرفة النحّات ليماك حمل كما في كل يوم عدة تقطيع الحجارة في الصباح الباكر واتجه نحو الجبال شمال مدينته ماري ليقطع منها بعض الصخور الصلبة ليحولها فيما بعد إلى منحوتات وتماثيل تُقدم لآلهة ماري.

وأثناء سيره الذي يستغرق منه قرابة كامل ما قبل الظهيرة، كان ليماك يردد بعض الأشعار والتراتيل المقدمة للآلهة عشتروت أملا في أن تحميه من خطر الحيوانات البرية وأذى قطّاع الطرق. كان ليماك مؤمنا صادقا بآلهة مدينة ماري ومخلصا في أداء واجباته الدينية تجاها، فهو لم يتأخر يوما عن الصلاة التي يقيمها الراهب الأكبر في معبد الشمس الجديد. كما أنه كان يقدم منحوتة جديدة للآلهة على الترتيب كلما قام ببيع إحدى منحوتاته.

مع اقتراب ليماك من جبل بيرا- نو الأجرد، لمح من بعيد غيمة بيضاء صافية فوق قمة الجبل، واستبشر بها خيرا، علّها تحميه من لهيب الشمس الحارقة. ومع كل خطوة نحو الجبل، كان قلب ليماك ينبض أسرع وأسرع، وكأن شيئا ما في الجبل يناديه ويدعوه للاقتراب أكثر.

توقف ليماك لبرهة يرتشف بعض الماء ويجفف عرق جبينه، وعندما رفع رأسه ليوصل المسير تفاجأ بأن الغيمة البيضاء قد تلاشت واختفت تمام، فانغمّ ليماك من ذلك ولكنه تابع مسيره.

مع وصوله لبطن الجبل العظيم بيرا- نو سمِعَ ليماك صوتا عظيما تتكسر وتطحن كما لو أن الجبل يُعتَصَر، ورغم قوة الصوت لم يتراجع ليماك خطوة واحدة للخلف، بل دنا والتفّ حول الجبل ليتبين مصدر الصوت.

أمام عيني ليماك وبكل هيبة وخيلاء، انتصب الطائر الأخضر الكبير آكل الحجارة فأرداً جناحيه سِعة السماء مغطياً بهما أشعة الشمس، وصابغا السماء بلون جناحيه الأخضر الزاهي.

وقف ليماك مبهورا أما عظمة المشهد، وتوقف لسانه عن الحركة، وقلبه ما عاد يبثّ الدم إلى عروقه، وعينهاه معلّقتان بمشهد الطائر الأخضر الكبير آكل الحجارة. لم ينتب ليماك أي شعور بالخوف أو التردد أمام عظمة المشهد، بل كان في حالة من النشوة والسعادة في ظلٍّ لم يعرف له مثيلا.

أخفض الطائر الأخضر الكبير آكل الحجارة رأسه العظيم وقضم بمنقاره المُذهّب قطعة من صخر الجبل وفتتها إلى صخور صغيرة توافق تماماً ما جاء ليماك النحّات في طلبه. انحنى ليماك من المشهد وسجد على الأرض شاكرا الطائر الأخضر الكبير آكل الحجارة على هديته، وهنا برزت للنحّات ليماك وكل البشرية عظمة ورفعة الطائر الأخضر الكبير آكل الحجارة بأن مسّ رأس ليماك بريش جناحيه الذين تحولا إلى اللون الذهبي وقال له بكل جلال «يا ابن الإنسان لا تحني رأسك، فكلّ عَظمَتي بدون الإنسان لا قيمة لها»

عاد ليماك جاريا إلى مدينته ماري وهو ينادي بصوت مرتجف مرددا اسم الطائر الأخضر الكبير آكل الحجارة، وليصدم برأسه جدار القصر الملكي في المدينة قبل أن يغيب عن الوعي.

الأخضر ونظرية الجدار الأكبر

الجدار الكبير إحدى النقاط التي سخّر لها متابعو الطائر الأخضر الكبير آكل الحجارة الكثير من وقتهم واهتمامهم. وقدم الكثير من عظماء المفكرين الخضر أعمال تحليلية مطولة حول “الجدار الأكبر” وتداعياته على الفكر الأخضر وانعكاساته في الحياة.

ليماك الشاهد الأول والجدار الأكبر:

لا يعدّ ليماكمفكرا أو باحثا أو حتى صاحب مرتبة بين أتباع الأخضر، ولكن له يُنسب الاسم العظيم للأخضر، وهو ناقل الكلمات الأولى للأخضر… كما أنه أول شخص اختبر نظرية الجدار الأخضر على أرض الواقع على الرغم من جهله الكامل بها وتداعياتها.

بقايا من الجدار الأكبر
بقايا من الجدار الأكبر

فالفقير للعلم ليماك بعد أن شاهد الأخضر قرب جبل بيرا- نوا، عاد مسرعا ملهوفا إلى مدينته ماري، وبعد ان دخل المدينة وهو يصرخ بأعلى صوت توجّه نحو قصر الملك زمري- ليم لينقل له ما رآه ويدعوه لتتبع خطى الأخضر، ولكن ما فات ليماك هو أن القصر كان تحت التجديد، وقد تم بناء جدار جديد للقصر على شكل مربع طول ضلعه 60 ذراعا بسماكة تصل في بعض النقاط إلى ذراعين، وليماك المسكين لم يلمح الجدار الجديد عند المنعطف الأخير واصطدم بالجدار بكل قوة وعنفوان ليسقط بعدها فاقدا الوعي والدم يتطاير من صدغه…. بعد نصف يوم استيقظ ليماك ورجال القصر حوله ينتظرون منه سماع قصة الأخضر، وهنا سرد لهم ما شاهد وسمع من الأخضر.

الجدار الأكبر وحجيج الطلاب:

كانت أسطورة الجدار الأكبر قد بدأت بالانتشار في أوساط أتباع الأخضر، وكان الكثير منهم يحاول صدم الجدار الذي اصطدم به ليماك بعد رؤية الأخضر لاختبار آلام ليماك ومشاعره، حتى غدا هذا الجدار محجّا لأتباع الأخضر يزورونه في نهاية فترة تعليمهم لاختبار ما درسوه من خلال الصدم الصاعق.

كان بعض الأتباع وخاصة من التلاميذ يعصبون أعينهم عند محاولتهم صدم الجدار حتى لا تتراخى هِممُهم عند رؤيته، وكم من طالب بينهم سقط مغمى عليه من شدة الصدمة.

وفي الفترات اللاحقة غدا صدم الجدار جزء هاما من مقررات الدراسة التي يحصل عليها مريدو علم الأخضر، وقد تطورت في الفترات اللاحقة من حيث المعدات والطريقة الصدم وعصب العينين وغيرها، وأصبح هناك مدارس وطرق في صدم الجدار مثل طريقة إيبيش- إيل الذي كان مدرسا في معهد علوم الأخضر في ماري عندما صدم الجدار بعد أن قفز في الهواء لعدة أمتار ويصدمه بقوة تركت أثرها على الجدار، وصار تلاميذ حلقته من بعده يقلدون طريقته ومن بعدهم أجيال وأجيال. وكان التعبري الأكثر شعبية لمن يرى النور الأخضر بعض صدم الجدار هو “مرّ فلان عبر الجدار الأكبر وشاهد النور”، بينما من لا يحالفه الحظ برؤية النور فكان يوصف بأنه “دخل الجدار وعلِق به”.

وبعد مرور قرابة 100 سنة على صدم ليماك لجدار القصر، غدى لصدم الجدار يوم محدد في كل فصل من فصول السنة، يتبارى الطلاب والأتباع على حدّ سواء في صدم الجدار والتعبير عن مدى حبّهم للأخضر فيه.

خوذند ناصيرو البابلي واختراق الجدار الأكبر:

خوذند التاجر البابلي دأب على زيارة المدن الواقعة غربي مملكة بابل العظيمة بغرض الحصول على سلع تجارية نادرة يبيعها في أسواق بابل الغنية، وفي إحدى زياراته لمدينة ماري سمع بقصة الأخضر وكيف أن أتباعه يطلبون العلم والمعرفة والنور الأخضر، فترك تجارته وجلس بين التلاميذ يسمع من المعلمين ويحفظ ما تيسر له من أقوالهم.

وخلال إحدى زيارات خوذند لمدينة ماري للحصول على بعض الجديد في علوم الأخضر والقيام معها ببعض التجارة، وافق أن كان هذا اليوم يوم صدم الجدار في الربيع، فما كان من خوذند إلا أن نزع ما يضع على رأسه ويحلق شعره تاركا لحيته ومن ثم اتجه إلى ساحة التجمّع التي لا يمكن منها رؤية الجدار، وانتظر بين المتجمعين ليحين دوره في صدم الجدار، وكان حينها يردد بعض التراتيل والأدعية لتلهمه القوة والعنفوان اللزامين لصدم الجدار بالعزيمة التي صدمه بها ليماك.

جاء دور خوذند وحينها عصب عينيه وربط يديه خلف ظهره وانطلق بكل ما استطاعت رجلاه من سرعة وسط تشجيع الحشود نحو المنعطف الذي يسبق جدار القصر القديم، ومن ثم اتجه مضاعفا سرعته نحو الجدار وكلّه أمل بأن يرى نور الأخضر بعد أن يصدم الجدار، وقبل أن يصل للجدار بأقل من مترين، زلقت رجله وهوى رأسه للأمام بقوة كبيرة وصدم الجدار بقمة رأسه بقوة لم يشهدها أحد ممن كان موجودا، ولهول القوة استطاع رأس خوذند أن يحفر في الجدار فتحة صغيرة تتجاوز حجم رأسه بقليل، وسقط بعدها مغمى عليه ولم يستيقظ إلا بعد 3 أيام ليقص على من حوله كيف أنه روحه خلال نومه غادرت جسده واتجهت نحو جبل بيرا- نوا وقابلت الأخضر. ومنذ ذاك اليوم غدا أسلوب الزحلقة والصدم معروفا باسم طريقة خوذند البابلي، رغم ان أحدا لم يستطع فتح هوّة مماثلة للتي صنعها خوذند.

سور الصين العظيم والجدار الأكبر:

كان لأحد ملوك المقاطعات الصينية العظماء أن سمع من التجار القادمين من الغرب عن حقيقة الأخضر، وأعجب بها ورغب بالسفر إلى مدينة ماري لرؤية ما يجري هناك على أرض الواقع، ولكن بُعد المسافة وخوفه من الانقلابات داخل مملكته منعه من السفر، ولكن هذا لم يمنعه من إرسال عدد من العلماء والفلاسفة إلى ماري للحصول على الحقيقة كاملة. بعد غياب دام 3 سنوات ونيّف، عاد جزء من البعثة بينما بقي القسم الآخر ملتزما صفوف التعليم في ماري. وقصّ الوفد على الملك قصة الطائر الأخضر وليماك وخوذند والجدار وغيرهم وكيف أن الناس يرون النور بمجرد أن يصدموا هذا الجدار المشهور. لم يستطع الملك بعدها النوم أو الارتياح، وأصيب بمرض شديد وخاف عليه المقربون من الموت، إلى أن خرج أحد أفراد البعثة واقترح عليهم أن يرسلوه إلى ماري للعلاج، ولكن ذلك كان مستحيلا، فقرروا بناء جدار مشابه تماما لجدار القصر في ماري، وبعد الانتهاء منه عرضوه على الملك الذي شعر بسعادة كبيرة وترجّل من العربة التي كانت تقلّه واتجه بكل قوته نحو الجدار وصدمه برأسه الملكي وأغمي عليه. بعد أن استيقظ عاد الملك لقوته السابقة ونشاطه المعهود وأمر ببناء حجار ضخم وقوي من الصخر الصلب يكفي كل سكان المعمور ليصدموا به رأسهم كما فعل ليماك.

درات الأيام ومات الملك وجاء بعده ملوك آخرون ونسي الناس القصة الأصلية للجدار، وتحولت إلى قصة عن ملك يريد حماية بلاده ببناء جدار كبير حولها. حتى جاء الإمبراطور شانهايغون الذي وحّد جميع ممالك الصين وأمر ببناء جدار يحيط بكامل الإمبراطورية لحمايتها من غارات الأعداء.

الجدار الأكبر في التراث الشعبي الحديث:

وضع الكاتب والمفكر الكبير عبد النور الزملكي الدمشقي كتابا شرح فيه حول تعاطي المجتمعات الحالية مع فكرة الجدار الأكبر. وقد فصّل بكل دقة تفاصيل تعاطي الناس مع هذه الفكرة وكيفية تحولها إلى مقولة مشهور. ومما جاء في الكتاب:

عبارة “فايت بالحيط“: هي تعبير انتشر في منطقة بلاد الشام وخاصة في دمشق والمناطق القريبة منها، يعبر فيه القائل عن خيبة أحد الناس أو عن غبائه وقلة فهمه، ومنشأ هذه الفكرة يعود إلى تراث صدم الجدار في ماري. فبعض التلاميذ ممن كانوا يصدمون الجدار ولا يوفقون في الحصول على رؤية للأخضر أو سماع صوت جناحيه كانوا يوصفون بأنهم “دخلوا الجدار وعلقوا به”. أي أن معنى المقولة الشعبية الحالية هو الجهل وعدم الحصول على المعرفة كما في الأيام السالفة.

عبارة “شفت الدنيا تضوي“: يستخدم بعد ان يصدم أحدهم رأسه بشيء قاس مثل جدار أو عمود أو غيره، وهي تعبير عن التقليد القديم لأهل ماري بأن بعد صدم الجدار يمكن للطالب رؤية النور الأخضر.

عبارة “سأنطح رأسي بالحيط“: تستخدم عندما يعجز المرء عن الوصول إلى حلّ لمعضلة ما. وقد كان تلاميذ الأخضر في ماري يقومون بصدم الجدار الأكبر برأسهم عندما يصلون لمعضلة فكرية يعجزون عن فكّ أسرارها، وبعد صدم الجدار يتبين لهم حقيقة ما كانوا يجهلون.

مقولة مشهورة للطائر الأخضر الكبير آكل الحجارة حول الجدار الأكبر:

“أغمض عينيك وأركض نحوي، فلا حاجب لنوري عنك إلى جدار في رأسك موجود”

ليماك النّحّات «الشاهد الأول»

ليماك النّحّات من مدينة ماري على الضفة الغربية لنهر الفرات العظيم. يعمل نحّاتا للقرابين المقدمة للآلهة في مدينة ماري ولبعض القرى الصغيرة المحيطة بها، ورِث ليماك حِرفته عن والده الذي فارق الحياة وليماك في السابعة عشر من عمره. قبل زواجه كان يفكر بالسفر إلى بابل أو نينوى ليرى بنفسه الأبنية العجيبة التي يتحدث عنها التّجار والمسافرون، ولكن مشيئة السماء بأن يكون اسم ليماك عاليا قدّرت أن لا يذهب في هذه الرحلة وأن يستقر في مدينته ماري ليغدو من أمهر وأشهر نحاتيها.
ليماك بين جناحي الأخضر في جبل بيرا- نوا

ليماك بين جناحي الأخضر في جبل بيرا- نوا

لا يُعتبر ليماك في التراث والفكر الأخضر مُعلِّماً أو صاحب معرفة أو مفسِّراً، ولكن مكانته العاليه تعود إلى أنه «الشاهد الأول»، فهو في الأعراف والتقاليد أول من شاهد الأخضر وسمِعَ منه، كما أنه هو صاحب التسمية الأشهر للأخضر «الطائر الأخضر الكبير آكل الحجارة».
بين جناحي الأخضر:
لعل الكلمات تعجز عن وصف اللحظات التي جمعت ليماك بالأخضر في جبل بيرا- نوا، ولعل الوصف لا يكفي لتقديم صورة كاملة عن ليماك ومشاعرهفي ذلك الوقت. ولكن مما لا شكّ فيه وما أجمع عليه العلماء والمفكرون هو أن ليماك كان في حالة سعادة وشعور عظيم بالآمان في ظلّ الأخضر.
وفي دراسة أجراها الباحث في الفكر الأخضر، الألماني كلارك رودينبرغ حول الظهور الأول بعنوان «الظهور الأول بعيون ليماك»، ذكر رودينبرغ أن الأخضر في ظهوره أمام ليماك لم يكن أخضر اللون ولم يكن يأكل الحجارة، بل في الحقيقة أن ليماك الذي كان مُجهدا من المسير والحرارة المرتفعة تراءى له الأخضر بلون أخضر زاهي وكأنه شجرة يتفيأ بظلها، بينما فكرة أكل الحجارة فهي تعود إلى سوء فهم من ليماك عندما شاهد الأخضر يكسر حجارة الجبل العملاقة بمنقاره. ودليل رودينبرغ على هذا هو الزهورات التالية للأخضر والتي غاب فيها تماماً اللون الأخضر